أمى قالت لى كده " الشعر بالمزاج والقهر

أعزائي رواد المنتدي وددت من وقت لأخر أن أضع بين أيديكم بعض الدراسات النقدية لشعر واحد من أهم شعراء العامية في هذا العصر ألا وهو أبن سنجها الأستاذ الفاضل الدكتور محمود عبدالحفيظ
مع خالص تحياتي
عادل الباجوري

أمى قالت لى كده " الشعر بالمزاج والقهر
إبراهيم محمد حمزة :

عن " أدب الجماهير " التى يشرف عليها الأديب الكبير فؤاد حجازى ، صدر ديوان الدكتور محمود عبد الحفيظ وعنوانه " أمى قالت لى كده " حاملا اثنين وشرين قصيدة من شعر العامية المصرية ، الملفت للنظر أن الديوان لأستاذ أدب عربى ، والمثير أكثر أن عاميته مضفرة بروح ساخرة ومازحة ، ومتهكمة ، فى بساطة تختزن أسرار الشعر الحقيقى الآسر ، عفوية تكاد تكون قمة الفنية فى التعبير ، فإن كان الدكتور محمود عبد الحفيظ قد درس فى كتابه النقدى " خبز الغواية " زجل بيرم التونسى من زاوية أنه حكايات " أو بتعبيره ( زجال يحكى بمنطق الشعر ) صـ27 فقد استخدم نفس البناء الدرامى للقصيدة البيرمية فى كثير من قصائده ، مع اتساع فى الرؤية ، ناتج من تطور زمنى وتغير حدثى .
يقدم شاعرنا ديوانا مزجيا حقيقيا ، يمزح ويبكى ويجد ويهزل ، يرتقى بالصورة إلى أقصاها ، ثم يضع تركيزه على بنية هندسية أحيانا وبنية درامية فى أحيان أخرى ، نجد مثلا قصيدة بعنوان " خد نادية " مشيرا إلى تعبير للفنان فؤاد المهندس فى مسرحية "سك على بناتك "
(بلاها سوسو ، خد نادية ) كما يوردها الشاعر بالقصيدة ، فى هذه القصيدة المقسمة إلى خمسة مقاطع يبدأ بإخبارنا عن التشكيل العائلى له :
(مال الزمن ميلة / وانا الوحيد اللى باكتب شعر فى العيلة / سافر أخويا إلى دولة الإمارات / وجمّع الدولارات / وعاش هناك / وأبويا مات / وحلفت أمى تروح وراه / وتبلغه السلامات / وشلت أنا الشيلة / ما انا الوحيد اللى باكتب شعر فى العيلة )

وبهذه البنية الحكائية يكمل قصيدته مازجا السخرية بالخيال ، حيث ستعود الأم ويعود الأب للحياة لنصيحة الابن ، وينصحها الأب بالعودة للموت أفضل ، مقدما رؤية غريبة بلا شك على العامية المصرية ، فمن النادر تقديم صورة الموت بهذا الشكل الساخر ، موظفا الحس الشعبى فى الحكى (كان لينا أختين بنات ) ثم يقص قصة زواجه من ابنة عمه ، ثم اكتشافه سوء خلقها ، ثم تدخل الأم والأب – بعد وفاتهما ( قالت لى أمى : يا كبدى .. هى بنت الكلب / أبويا قال : يا أم عبده .. موتى وانسى الغلب ) ...

تبدو منابع التجربة عند شاعرنا كثيرة المسارب ، ولكن نهر بيرم التونسى يدفق بقوة على أرض قصيدة محمود عبد الحفيظ ، ليس فقط لإشاراته الشعرية كقوله (يا عم بيرم سلام الله / ورحماته / كل اللى عاشوا بيستنوا الفرح ماتوا / راح الزمان اللى كنا إحنا علاماته )

، لكن الأهم فى الروح خالصة المصرية المنبثة عبر قصائد الديوان ، ودرامية القصيدة الواضحة فى ديوانه ، وحيلة التفاصح التى استخدمها بطريقة متقدمة ، موظفا إياها بشكل مختلف ، حيث صارت الشطرات الفصيحة ركنا بنائيا فى النص ، سنجد ذلك فى قصائد عديدة منها ( دولة / رد الغسيل / حالات ....) لكن يبقى لقصيدة " رد الغسيل " تفردها البنائى فى هذا السياق ، حيث الإيقاع فيها يفاجىء القارىء بالمستويين المتخالفين للغة ، بين أقصى طاقات بلاغة الفصحى ، وأقوى طاقات شعبية العامية وعاطفيتها
( غَيْرَُنا يَعْرِفُ النَْومَ والنومُ يَعْرِفُهُ)

فصحى .. ثم (كل ما الواحد يقول / ارتاح / تيجى حاجة تقرفه )

ثم تنساب صور الفقر البشعة التى تتحد مع الشعور بالقهر على طول الديوان ، ومع الاتحاد الصادق وآلام الناس الحقيقيين ، حيث الوطن الحقيقى فى مقابل الوطن الصورة فى الإعلام ، الوطن المسروق فى مواجهة الوطن السارق ( هو انت إيه / نائب رئيس مجلس إدارة هذه الدنيا ؟! ... مش برضه واحد زينا / محتاج إذا ضاقت لواحد مننا / تصعب عليه ) ..

لحظات مسروقة من الزمن الخوان ، يخطفها شاعرنا الدكتور محمود عبد الحفيظ ، ويبدو أنه حين أزال اللقب العلمى من اسمه على غلاف الديوان ، أزال الكرافت ، والبدلة ، وارتدى جلبابه البلدى بدون ياقة ، وجلس على الأرض مشعلا " المنقد " على الشاى والجوزة وربما أشياء أخرى .. كوز ذرة مثلا . إبراهيم محمد حمزة